عنوان القصة : اليد المتوحشة بقلم : الأديب السعودي ابراهيم النمله
اليد المتوحشة
تلك اليد التي كنت أخاف منها كثيراً ، حين أرى كفاً ممدودة ، وقد نقص إحدى أصابعها .
فمنذ صغري كنت أتشاءم من رؤية الكف المبتورة إحدى أصابعها ، أجدها لا تقوى على القبض
وأن الماء سهل جداً أن يتسرب منها ، وأخاف جداً من رؤيتها ، كنت أتخيلها، يداَ متوحشة ، فهي تأتي لي دائماً في الحلم تخنق عنقي بعدما تقطع برتقالة ناضجة أربعة قطع وتتركها للغبار .
كان أبي رحمه الله قد أتفق مع عامل بناء من الجنسية اليمنية أن يبني له غرفة صغيرة في سطح دارنا لتكون مستودعاً ، كنت بجانب أبي رحمه الله حين تم الاتفاق ، ولما مد البناء كفه ليستلم من أبي دفعة أولى لعمله رأيت الكف المبتورة إحدى أصابعها ، جفلت منه ، بدأ عمله ولم تصعد خطواتي درجات سلم السطح ،لم أكن أجيب لطلبه حين يطلب مني ماء ، أو قدح من الشاي ، كنت اهرب من رؤيته قدر المستطاع، حتى أن رائحة الأسمنت المرشوش بالماء والتي كانت تبهرني ، لم أستطع أن أمارس متعة شمي لها بسبب أصبعه المبتور ....
تعديت سنين طفولتي تلك ، ورأيت اليد المبتورة والرجل المبتورة ولم يحركا فيني شيء ، رغم أن رؤية اليد المتوحشة تعيش معي بخوف بداخلي ، إلا إنني كنت سرعان ما أتحاشى التفكير فيها ، حتى لا تأتِ لي في الحلم وتخنقني ، لم تعش معي سوى بنظرات العطف وشيء في القلب يأتي للحظة الموقف ثم يرحل ... ".
حينما انتهت أيام عزاء أبينا، ورأيت كل منا يدرك نفسه في اتجاه بعيد عن الآخر، حينها جلست وحيداً في دار جديدة ، بعدما تركنا دار والدنا ، الذي لم يكن يضم سوى جسد أبي ، وشيء من بقايا رائحة أمي رحمهما الله. ولم يكن حولي مساء يوم الأربعاء أبنائي الذين ذهبوا مع والدتهم لزيارة أهلها كما هو معتاد كل مساء أربعاء ، حينها تذكرت موقف طفولتي وتلك الغرفة ويد البناء اليمني ودرجات سلم السطح !!!.
كنت أخاف علي كفي من أي شيء ، كنت أخاف أن يحدث شيء ما ويبتر إحدى أصابعي ، وأصبح فيما بعد ، ما كنت أخاف منه ، يكون عالقاَ في جسدي .
لا أعرف لماذا ، حين حدث لي حادث ، أني رفعت يدي عالياَ ، هل كنت أخاف عليها من خوف طفولتي ، كنت أرى كفي تنز بالدم ، وكنت أبكي يدي، لا ألمي ، وحين أفقت من ذات مساء ، وجدت نفسي على سرير أبيض ، وكفي متدثرة بالقماش الأبيض ، لا أجد فيها حركتي ، بكيت بصوت عالِ ، دخل علي لحظتئذ الطبيب ، حاول أن يهدئ من روعي ، رفعت يدي دون أن أتمكن من النطق ، أدرك ما كنت أعني ، أمسك بكفي ، ووضع يده على جبيني ، وقال :-
= يدك سليمة ، ولكننا اضطررنا إلى بتر أصبعك الصغير ، خوفاَ عليك من مرض الغرغرينا أن ينتشر في ساعدك .
حينئذ وجدت نفسي طفلاً ، يركض في فناء دارنا أبي القديم ، وخلفي يركض العامل اليمني ، وهو يقدم يده المبتورة إحدى أصابعها ، أمام وجهي ، يده المتوحشة تقترب من وجهي ، تنز بالدماء ، رأيتها تكبر وتكبر ، حتى أنني لم أر سواها ، دون أي جسد يحملها !!!....
= دكتور أخي نائماَ منذ أمس ، ولا يحرك ساكناَ ...
= لا تخاف عليه ، فالنوم صحة له ، وكل التقارير عنه جيده ، ولكنه لم يتقبل بتر أصبعه فقط .
دائماَ أضع يدي في جيبي ، وأعيش حياتي ، طردت خوفي السابق ، حين أراد القدر أن أكون هكذا ، لا أنكر أنني حجبت نفسي عن الشارع ، تركت كل الوجوه ، التي أرى حياتي فيها ، لم يكن الأمر بذاك السهولة ، ولكني لكي تعيش ، لابد أن تساير الأيام ، حتى لو داست عليك بأقدارها ،
وأصبحت بين عشية وضحاها ، رجل يعاشر الحياة بيد مبتورة ، حينها ، التمست العذر للكل ، وبكيت أصبعي المحذوف من سجل حياتي القادمة ، وكل ما كان يرهقني في التفكير ، أن أجد حلم حلمته ذات ليلة ، ولم يفارقني ، بأن أجد كفي ، تتساقط أصابعه ، حتى تغدو ملساء لا تسر الناظرين !!!...
ما تمنيته بالفعل ، ذات عذاب ، أن الله سبحانه وتعالى ، قد خلق في اليد الواحدة أربعة أصابع فقط.
ولكن الحمد لله ، أن هناك يد ، تستطيع أن تقبض على نفسها ، قبل أن تتساقط كل الأصابع !!!..
كنت أخاف علي كفي من أي شيء ، كنت أخاف أن يحدث شيء ما ويبتر إحدى أصابعي ، وأصبح فيما بعد ، ما كنت أخاف منه ، يكون عالقاَ في جسدي .
- 2 -
مات أبي ، مات في حادث سير ، وبعد موته رحمه الله ، لم تفارقني في أحلامي اليد المبتورة .
وفي لحظة وداع جسد أبي ، وارينا جسد أبينا تحت التراب ... واجتمعنا ، أنا وأخوتي ، كل منا مد كفه لوجه الآخر ليمسح دمعته ، ومد اليد الثانية لمصافحة أكفف المعزين ، لم نكن نفكر حينذاك سوى أن الحياة حينما تأخذ لن تعطي !!!.
ثلاثة أيام كانت أجسادنا متلاصقة وبعدها تفرقنا ، حينئذ أيقنت جيداً معرفتي للاتجاهات الأربعة ، نعرف بعض بالاسم فقط أما الوجوه فقد تصاعد عليها الغبار ، هكذا كنا ، أخوة دفنوا جسد والدهم ، وانتشروا في الأرض ، عدا أنا ، كنت بين عذاب الفقد ، وعذاب الأحلام !!!...
مضى على رحيل أبي ، سنة وثلاثة أشهر ، وتحققت أحلامي المزعجة ، أصبت في حادث سير ، ولم يحملوا جسدي إلى أبي ، وإنما حملوا أصبع بنصري ودفنوه ، في نفس أرض جسد أبي ، كنت في المصحة ،حين رفعت يدي عالياَ ، رأيت كفي ملفوفة بقماش أبيض ،خفت عليها من خوف طفولتي وحينها لم أشعر بشيء .
أفقت ذات مساء ، وجدت نفسي على سرير أبيض ، وكفي لا تزال متدثرة بالقماش الأبيض ، لم أجد فيها حركتي ، بكيت بصوت عالِ ، دخل علي لحظتئذ الطبيب ، حاول أن يهدئ من روعي ، رفعت يدي دون أن أتمكن من النطق ، أدرك ما كنت أعني ، أمسك بكفي ، ووضع يده على جبيني ، وقال :-
= يدك سليمة ، ولكننا اضطررنا إلى بتر أصبعك الصغير ، خوفاَ عليك من مرض الغرغرينا أن ينتشر في ساعدك .
حينئذ وجدت نفسي طفلاً ، يركض في فناء دارنا أبي القديم ، وخلفي يركض العامل اليمني ، وهو يقدم يده المبتورة إحدى أصابعها ، أمام وجهي ، يده المتوحشة تقترب من وجهي ، تنز بالدماء ، رأيتها تكبر وتكبر
حتى أنني لم أر سواها ، دون أي جسد يحملها !!!....
- 3 -
قال أخي الذي كان طوال الوقت ، يده على جبيني ، قال للطبيب الذي دخل للتو :-
= دكتور أخي نائماَ منذ أمس ، ولا يحرك ساكناَ ...
= لا تخاف عليه ، فالنوم صحة له ، وكل التقارير عنه جيده ، ولكنه لم يتقبل بتر أصبعه فقط .
بعد مدة خرجت من المصحة ، لم يكن بتر أصبعي ، هو سبب مكوثي تلك المدة الطويلة ، فطبيبي لم أره إلا مرة واحدة في اليوم ، ومن كان يشرف على حالتي ، هو دكتور الأمراض النفسية !!!...
تغيرت أحلامي المزعجة ، لم تكن اليد المتوحشة تأتي مبتورة الأصبع ، وإنما أحلامي كانت تأتي متسلسلة ، لأفقد في كل حلم ، أصبعاً جديداً !!!...